أبدت الفتيات الصغيرات حماسا لكلامها، إبتسمن لسخريتها اللاذعة، وتأثرن بالأمثلة التي ضربتها وهي تتحدث بصاروخية عما أطلقت عليه المجتمعات الشرقية الذكورية المتخلفة..فهي لا تجد أي غضاضة، ولا تشعر بأدنى تردد في أن تُحمِّل النمط الإجتماعي الشرقي والعربي الذي يقدر الفروق بين الجنسين المسؤولية عن مشاكل البلاد والعباد كلها جميعا.. من فقر ومرض وبطالة وتخلف في شتى الميادين.
كان نشاطها في إحدى الجمعيات النسوية ينصب على إستخدام طلاقتها في الحديث لجذب النساء والفتيات في بيئات ثقافية مختلفة على الأرض وكذلك على الإنترنت إلى فكرة التمرد على المجتمع الذكوري، والضرب في الأفكار الأساسية التي يستند عليها -برأيها- وعلى رأسها القوامة.
من يعرفها عن قرب لم يتعجب لكونها قاربت الأربعين من العمر دون أن تتزوج أو تنجب، فتجربتها مع الزواج عابرة، لم تستمر سوى بضعة أشهر قبل أن تنتهي بالإنفصال، فقد كانت تعاني من كراهية الرجال، رغم ما تردده دومًا بأنها: لا تكره الرجال ولكن تكره سيطرتهم.. في الحقيقة كانت تكره ميلها الدفين إلى بعض السيطرة الذكورية التي تشجبها بالعشي والإبكار، وتشمئز من بقايا الأنثى بداخلها التي تحتاج إلى الرجل كما يحتاج هو إليها.
لم تفوت فرصة إجتماع حشد لطيف من الشابات والفتيات قبيل عرس إحدى القريبات لتصب عليهن من مسحوق تطاحنها النفسي المرير، بحديث يبدأ مقبولا بالتطرق إلى أهمية مشاركة المرأة في ميادين الحياة، وحفاظها على كرامتها وشخصيتها، ولكنه يظل يتصاعد بقوة كطبول حرب مستعرة تزحف على دروبنا وبيوتنا.. شبر شبر.. ودار دار، بين الزوجين الذكر والأنثى اللذين لم يخلقا في حقيقة الأمر للعداء وإنما للتكامل.
صوَّرتْ القوامة وكأنها مقبرة الكرامة، وذكرى من أزمنة الذل والهوان حيث كانت المرأة -بوصفها- عالة على الرجل، يتكبر عليها لأنه يطعمها ويؤويها، أما وقد تعلمت المرأة وعملت وكسبت قوتها فلم يعد هناك مبرر ليتفوق عليها أسريا من تفوقت عليه أو تساوت معه في ميادين الحياة، هذا هو منطقها الذي ظلت تدندن حوله لسنوات.
لم تتمالك إحدى الحاضرات نفسها مع سماع كلمات عدوة القوامة، وقالت بصوت مغتاظ: وهل كرامة المرأة أن يصبح الرجل عالة عليها؟..
نظرت إليها بتعجب، وقالت: ماذا تقصدين؟.
أجابت المرأة الأربعينية التي ملأ الحزن قسمات وجهها، وقالت: تزعمين أن كرامة المرأة مهدرة في ظل القوامة، ولكنك لم تتطرقي إلى الكرامة المذبوحة على أعتاب الرجل العالة، الذي وجد في خروج المرأة للعمل، وتوليها زمام الإنفاق مرتعا له لينام ويسهر ويلعب.
إستجمعت عدوة القوامة أفكارها، وقالت بإستياء: وهذا أيضا نموذج سيء.. لماذا علينا أن نفترض هذا السلوك؟، لماذا لا يعيش الرجل والمرأة متساويان متشاركان دون أن يكون أحدهما عالة على الآخر، أو يسعى للتحكم فيه؟!.
أجابتها المرأة بمرارة: النماذج التي تزعمين أنها مفترضة هي واقع منتشر جدا مع الأسف.. أنا إحدى ضحاياه.. فقد صدقت في مقتبل حياتي مثل كلماتك، وآمنت آنذاك بأن القوامة هي فكرة رجعية، فقد تعلمتُ وأصبحتُ طبيبة.. سأنجح ولن أحتاج إلى من ينفق علي، ورفضت الزواج بمن توسمت فيهم قوة الشخصية أو بالأحرى الرجولة وتحمل المسؤولية، وإخترت من يكره القوامة مثلي، فماذا كانت النتيجة.. أنفقت عمري على شبه رجل ينتظر أول الشهر ليفتح حقيبتي ويأخذ مالي، تضاعفت أعبائي فما زلت أمارس أعمال ربة البيت والأم مع أعبائي الخارجية، من أجل إنسان تشبَّع هو الآخر بمثل طرحك، ونأى بنفسه عن القوامة.. فهل تعتبرين أنني أحيا بكرامة؟.
قالت عدوة القوامة بلهجة لم تخل من تهكم: اسمحي لي.. أنت ضعيفة الشخصية، لماذا لم تنفصلي عن مثل هذا الإنسان؟.
ردت الطبيبة المحزونة: نعم بالتأكيد.. الطلاق هو الحل الطبيعي لمجتمع فقد بوصلته وهويته، لامرأة ورجل كره كل منهما أن يكون نفسه.. إطمئني يا عزيزتي فقد إنفصلت عنه ولكنني حاولت طويلا أن أحافظ لأبنائي على صورة الأب حتى وإن فقدوا جوهرها.
وقبل أن تتابع عدوة القوامة حديثها وقفت الخادمة -التي كانت تستمتع لحديث الحاضرات أثناء عملها- وقالت بإصرار: وأنا أيضا مثل الدكتورة.. أكد وأتعب وزوجي لا يعمل منذ زمن طويل، فقد اكتفى بأن يخرجني أنا وبناته الصغيرات للعمل لينفق هو المال على شهواته ولذاته.. بصراحة -ولا أريدك أن تغضبي مني- مشكلة النساء هذه الأيام ليست في القوامة التي تتحدثين عنها بضيق، ولكنها في غياب هذه القوامة.
شعرت عدوة القوامة بإنفلات الموقف من يدها، فقالت: هكذا نحن دوما نهرب من تطرف إلى تطرف مقابل.. فإما رجل متحكم ومسيطر سي السيد يستعبد المرأة، أو رجل فاشل وضعيف يعتمد عليها ويسرق جهدها.. لماذا لا نكون مثل المجتمعات الغربية المتحضرة التي تقدر قيمة المشاركة؟.
ردت عليها إحدى الشابات بقولها: ولكن هذه المجتمعات الغربية التي تزعمين أنها متحضرة إجتماعيا تعاني من إنهيار الأسرة، وعذاب المرأة المعيلة أو الأم العازبة، فكثيرا ما يرحل الرجل ليترك لها عبء تربية الأطفال والإنفاق عليهم، ولكنك صدقتي في قولك أن المشكلة في مقابلة التطرف بتطرف.. وهذا ما تفعلينه أنت وغيرك -مع الأسف- فكما أن هناك نماذج متطرفة همشت المرأة، وحرمتها من حقها في التعليم والعمل الكريم، وكما أن هناك لئام أهانوا زوجاتهن وبناتهن، وظنوا أن الأنوثة عار، وأن القوامة إذلال، فإن طرحك يستند أيضًا على أفكار متطرفة تستمر في تقديم العذاب للمرأة ولكن في غلاف براق، أفكار تعتبر أن دور المرأة العظيم كزوجة وأم وراعية في بيتها مجرد أعمال تافهة لا تحقق ذاتها، مع أنها من أعظم المهام على وجه الأرض وفي تاريخ البشرية، أفكار تنفي أهمية التنظيم الإداري داخل مؤسسة الأسرة التي هي نواة المجتمع، وتحرم الصغار من أم متواجدة مرتاحة البال غير تعيسة ولا مثقلة بهموم تبعثر أفكارها وجهودها لتربية نشء سليم العقل والوجدان.
آثرت عدوة القوامة إنهاء النقاش فقد زادها الجدل تناقضا وتطاحنا واستياءًا..
الكاتب: مي عباس.
المصدر: موقع رسالة المرأة.